الشاعر شربل بعيني نقاهة لمجتمع مغترب



19-5-1988

إلتقيته للمرّة الأولى في بغداد، في المربد الثامن للشعر، طويل القامة، في بؤبؤيه علامات جرأة أدبية نادرة، صوته عالٍ ليس فيه امتداد، الجملة تأتي شفّافة على شفتيه، وبصلابة يتكلّم، وينتج بسخاء، كأنّه النبي الذي أرسله اللـه إلى شعبٍ، وهو بينهم نذيراً وبشيراً، يعطي دور النقاهة لأولئك المعذّبين في معامل أستراليا، مسحوقين من فرط ضجيج المطرقة والسندان، وضوضاء الآلة، في معامل صناعيّة ضخمة، وهي لا ترحم إطلاقاً، ولا تراعي شعور عاطفة الإنسان، الإنسان، من أي جهة جاء، ومن أي مكان انطلق، وإذا عُدّ الشعراء في أستراليا على أصابع اليد، فشعراء العروبة أقلّ من ذلك بكثير، والشاعر لا يحكم، ولا يعمل بأوامر تصدر إليه، هو الذي يرغم القصيدة أن تخرج من حجالتها، وتعطي قوة، وصلابة، وراحة، لكلّ المعذّبين، لا سيّما عمّال شلحتهم الغربة على سواحلها البعيدة. لا سيّما أستراليا التي التهمت كل المسافات، بعد أن جرّدتهم من اللغة، والتقاليد، والطعام، والعادات. كل شيء لا يشبه لبنان.. من ذلك المنطلق البعيد، صرخ يناغي ويناجي، ويستنجد الطبيعة لا الناس:
خبّيئيني، يا بلادي، تحت شالِكْ
واسكبيني ضوءَ شمسْ
كي أشيل الليل من قلب رجالِكْ
وأقيم كلَّ يوم حفلةً ساهرةً
فوق الحواجز والمعابرْ
وأمام كلّ حبسْ
وعلى وجه الطفولَه
أرسم الحلْمَ المسافرْ
وردةَ حبٍّ خجوله
وأناشيدَ، وهيصاتٍ، وعرسْ..
والشعر عند شربل بعيني، ليس أهزوجة زجل فقط، ولا ذبذبات حفلة فيها روائعه، فهو شاعر، واللغة الزجليّة فيها مسحة من الأصالة، والتجديد، والسمو:
وكنت ع بابِك وقفت سْنينْ
حامل كمنجه وباقة رْياحينْ
تا كيف ما تروحي وتجي ع البيت
غنّي لْعُيونِك أجمل تْلاحينْ
وشربل لا يحتقر نفثات يراعته، وما تنزّ من شفرتيها، يحتفظ بكل شيء، ويقدّمه إلى القارىء الذي يكنّ له كل محبّة ومودة واحترام، وقد جمع كل ذلك في كتب، عليها مسحة من الأصالة، والجودة، والعطاءات الفكريّة الرائعة. وهو إذ يحرّك أقلام المهجريين، يعطينا رسماً آخر، ونكهة أخرى.
وإليكم ثبتاً بقائمة مؤلّفاته: مجانين، الغربة الطويلة، مراهقة، قصائد مبعثرة، إلهي جديد عليكم، مشّي معي، رباعيّات، من خزانة شربل بعيني، كيف أينعت السنابل؟، من كل ذقن شعرة، قصائد ريفيّة، أللـه ونقطة زيت، يضاف إليها ثلاثة أجزاء من شربل بعيني بأقلامهم، لمعدّه الأستاذ كلارك بعيني.
يده تنقل إلينا ما ينسجه عقله، هو المتكىء في مجالس الشعب، ويقهقه على الزمان، وسراجه لا ينضب زيته، ولا تنطفىء فتيلته.
شربل بعيني، يبقى المدماك ، الحجر الذي رفضه البنّاؤون، فأصبح رأس الزاوية، العازف على قيثارته قصائده، ليريح شعباً حذفه الوطن إلى السواحل البعيدة.أكتب، ففي شعرك عزاءٌ تقطف ثـماره من فردوس الروح".
د. الأب يوسف سعيد
**