شجاعة قديس


5-7-1988
عزيزي شربل
تأخذك أحياناً دهشة الأشياء المرئية إلى امتدادات بعيدة وعميقة، وتتوارى وراء سجف لامرئية، وعندما تستيقظ لا تجد حولك في هذا العالم سوى (أنت)، وقصيدة قد كتبتها.
كيف تحرك أصابعك؟ وما لون الدم في أصابعك؟
كيف كان وضع دقات قلبك؟
أمور كلياً تجهلها من ذلك الانخطاف، وهذا الذوبان والامتداد المتشح كالضوء شعفات جبل، تأتي أفكارك مجسدة، إذ طالما أنت مصاب بحالات هذا الاختطاف والسقوط في اللاوعي، والانشلاح الكلي عبر دهاليزك المبطنة بدكنة الأسرار، والغموض، والاختفاء، والظهور.
أمور وحالات لا ندركها إطلاقاً، لكننا عندما نستيقظ نحس بهالات جديدة، وقبسات جديدة، ورعشات طارئة. إذاً لماذا لا تحمل مبدأ موهبتك وتكتب؟ إن هذا العالم لا يغذيه سوى قلم ثائر أصيل مثلك. فاكتب، ولتكن شجاعتك كشجاعة قديس أو نبي حاولوا طرده من المدينة، أصرّ على البقاء، فرجموه، فكانت دماؤه جسراً أبدياً للخلود.
أطالع رسالتك، وأقرأ ما كتبته عنك، وكيف شرّحتني فوق مقصلة الأدب أمام صاحب النيافة عبده خليفة، قبّل أياديه عوضاً عني، واطلب رضاه وبركاته.
كتبت آخر قصيدة بعنوان(حافات لأوقيانوس الرؤى) وهي طويلة نوعاً ما، مطلعها:
أستطيع أن أنصب شمعة لتكون صارية
قرب صخور البحار،
ضؤها يفتح أكثر من نافذة
في خاصرة العتمة.
ليتني قرأتها لك، حتماً سنلتقي في المربد التاسع، وعليك أن تراقب وتراجع دعوتك. هل لي أن أقول لك، مدفوعاً من حبي وغيرتي، والتأمل في مستقبلك، سترى ماذا ستفعل الآن. ماذا تكتب. ما ترسم، وكيف تسوح تلك البلاد القصية.
اتصلت مع جاد الحاج وهو في لندن، ووعدني بزيارة السويد، لكنه لم يفِ، معذور، أشغاله أوسع من امتداد البحر. بلّغه سلامي وأشواقي. وآمل في يوم ما أن نجتمع في بلادكم القصية، أنا وأنت وجاد، ونقرأ قصائدنا لباعة التفاح والرمان والسفرجل.
حتماً سأحمل معي ديواني الجديد إلى بغداد لطباعته هناك، وهو بعنوان (بهيموث والبحر)، أو سأختار ديواناً آخر. كثيراً ما أغضب من تلك الكتب فأمزقها، ومع هذه فهي كثيرة والحمد لله.
تحية إلى أدباء أستراليا الذين ترتبط معهم بأصرة، ونسين أن أقول لك أنني زرت إنكلترا للمرة الأولى، ونزلت ضيفاً على صلاح فائق، الشاعر والصديق جداً. كان دفء لندن يريحني، وهناك منعني أن أكتب، وقال لي: عليك أن تلتذ، ومع هذا كتبت أكثر من قصيدة، وستنشر الأولى في الدستور. أرجو أن تطلع عليها عندما تنشر. ما كتبه عني جاد لم ينشر بعد أيضاً.
أنهمك الآن في كتابة دراسة عن دواوين حميد سعيد، ويجب أن أنتهي منها قبل المربد التاسع.
آمل أن أسمع صوتك أيها العزيز مار شربل قديس أستراليا وطيورها الجميلة.
ودمت مع مودة الذي لا ينساكم
د. الأب يوسف سعيد
**