مقدمة بقلم شربل بعيني


   قد يكون الأب يوسف سعيد أحد الشعراء القلائل الذين أعجبت بقصائدهم المربدية، وبإلقائهم المفعم بالحنان. قد تقولون: وما دخل الحنان في الإلقاء.
الحنان في الإلقاء هو أول ما يصبو إليه المستمع، ومن خلال قدرة الشاعر على إبرازه، يحكم إما له وإما عليه.
   والأب يوسف سعيد لم يتلقَ الأحكام بل أصدرها، لأن كلمته صادقة، حنونة، وذات رؤية صائبة:
لماذا لا تطلع من تجا ويف الغضب ابتسامة؟
ولماذا لا يأتي الهدوء التام
ولا يكون لكل معنى انخفاض،
وللمعاني الاخرى صعود..
   حنانه، لا يقدر أن يخفيه، فهو يلازمه كظله، إذا كتب بكى، وإذا راسل أبكى:
   "كنت في بيروت، بعد غياب 17 سنة كنبي كسيح ومضطهد وغريب.. كنت وحيداً لا يفهمني أحد سوى هذا القمر وكواكبه، وهذه الشمس. كان كل شيء مغضاً، الطبيعة في لبنان بدأت تشيخ، والخضرة في السنديان بدأت مرغمة تأخذ لون الرماد".
   فمن هو الأب يوسف سعيد؟
   شاعر عراقي بارز، حضر مهرجانات الكلمة الحرة في مربد بغداد، وألقى قصائده التي نالت إعجاب الجميع دون استثناء.
مؤلفاته لا تحصى، أذكر منها:
ـ الموت واللغة، 1968 بيروت
ـ ويأتي صاحب الزمان، 1986 أسوج
ـ طبعة ثانية للتاريخ، بيروت 1987
   أما ديوانه الأخير (الشموع ذات الاشتعال المتأخر) فقد صدر منذ عدة أسابيع عن منشورات الشباب في بيروت ـ 1988
   في هذا الديوان نجد أن الأب الدكتور متألم كشاعر بعد أن بح صوته من كثرة مناداته لباقي الشعراء كي ينتبهوا ويحذروا نتانة هذا العالم الذي يبغضهم:
الحق الحق أقول لكم، إن العالم يبغضكم، ويكرهكم..
ويقول عليكم كل كلمة شريرة..
أيها الشعراء..
إن العالم صنع لكم صليباً، وإكليلاً، وأعد مطرقة،
وحفنة من مسامير غليظة،
وفتح لكم جلجلة، وخندقاً يستوعب فيها أجسادكم.
عن هذا الأب الشاعر كتب وديع سعادة يقول:
يكتب كمن يصلي لله..
وصباح خراط زوين:
يستقر على الرابية، لا يهتم لالتصاقه بالقمة أو بالله كما في الحالات السلبية الشعرية القصوى..
أما جو الحاج فقال عنه:
الأب يوسف سعيد يتلو عظته شعراً، ويحكي مع رعيته شعراً، ويناجي ربه شعراً..
وبالطبع فهو يعمل كل هذا لأنه "يتمتع بطوباوية حارة" كما قال عنه يوسف بزي.
   الأب يوسف سعيد عرف كيف يجمع بين القداسة والشعر، لأن الكلمة التي يكتبها معجونة بالايمان ومفعمة بالقداسة، وتنقل قارئها إلى عالم لا يدخله إلا من قرأ يوسف سعيد، واستوعب انبلاجه الصباحي.
وعندما توفاه الله بكيته بهذه الكلمات:
   عام 1987 تلقيتُ دعوةً للمشاركةِ بالمربد الشعريِّ الثامن في العراق، فكانت المرة الأولى التي أعودُ بها الى وطني العربي الأكبر بعدَ غيابٍ طويل. 
   كنت خائفاًُ كطفلٍ صغيرٍ يَمَّمَ وجهَهُ جِهَةَ الشرق ليبحثَ عن أبٍ أضاعَه يومَ رحل، وما كنت أعلمُ أنني سأجدُه في بغداد، كاهناً قديساً، وشاعراً محلقاً، وناقداً متواضعاً، وصديقاً قلَّ مثيلُه.
   لقد وجدتُك يا أبتي، يا شاعري، ويا صديقي الأب الدكتور يوسف سعيد. عندها تلاشَتْ غربتي، واضمحلَّ خوفي، وأحسستُ أنّي وجدتُ الوطن.
يا وطنَ القداسة، لن تنطفىءَ شموعُك.
يا وطنَ الشعر، ما أجملَ بيوتِك.
يا وطنَ الصداقة، ما أوسعَ حدودِك.
يا كاهنَ الرب، ظلِّلْني بأبُوّتِك، باركني بِيَراعِك وسدِّد خُطايَ بقداستِك. لقد كنتَ الكلَّ في شخصٍ واحد، فأحبَّك الكلُّ وتباهوا بطَلَّتِك.
رحيلُك عنّا خسارةٌ لن تعوّضَ، ولكن مهما أحببناك لن نحبَّك قدرَ الداخلِ الى ملكوتِه السماوي، فاهنأ برفقة سيِّدِ المجد.. لأنَّك كنتَ المجد. 
وداعاً يا أبتي وإلى اللقاء.
إبنُك الشعري شربل بعيني
**